تجبرنا ظروف الحرب على الخضوع لأحكامها، لكنها أبداً لاتستطيع أن تتحكم بإرادتنا، يؤكد لي ذلك (مثنى الزعبي)، عبر يداه الصغيرتان اللتان تعانقا الجدران والألوان الزيتية فترسمان أبهى اللوحات الحية المليئة بألوان قوس قزح أحياناً، وأحياناً أخرى حزناً رمادياً لوجوهِ فتياتٍ أجبرتهنّ الحرب على سكب الدموع لفقدان الوطن والأهل والحنين إليهما
مثنى القادم من جنوب درعا إلى الأردن أثناء الحرب في سوريا، لم يفقد ذراعيه بسببها، بل فقدها قبل فقدان الأرض التي دُفنتا فيها، وقبل الوطن والأهل والأصحاب، بالرغم من فقدان مثنى كلتا يديه في حادث عندما كان في سن الخامسة، إلا أنها غيرت حياته، وقتها بدأت التحديات التي كسبها مثنى جميعها، التعليم، الرياضة، المسؤولية الاجتماعية، .. وغيرها الكثير.
لم تقف إعاقته أبداً أمام طريق نجاحه، وكأن ذلك الطريق هو سباق حواجز في مضامير وميادين مختلفة، يكثر فيه العدّاؤون من كل مكان و بقدراتِ جسديةِ مختلفة، إلا أن مثنى يسعى جاهداً في كل سباق للوصول وإكمال السباق ورفض فكرة الانسحاب.
استطاع مثنى أن يحدث تغييراً على تلك المقولة الشهيرة “فاقد الشىء لا يعطيه” وجعلني حقاً لا أؤمن بها، فغيّر شكل إعاقته التي يراها الكثير حاجزاً أمام طريق النجاح، إلى تحدٍ أثبت فيه فشل هذه المقولة، وذلك من خلال روح العزيمة والإرادة على الحياة وإثبات الوجود، والرغبة في تحدي الإعاقة وظروف الحرب القاسية، وجعلت منه فاعلاً إيجابياً، لا يخضع لقهر الحال، وأن يكون على قدر كبير من المسؤولية منذ صغره، ليكون بعدها أحد أبرز المواهب السورية في الأردن.
مثنى الذي يبلغ اليوم من العمر 28 عاماً، استطاع إكمال دراسته متجاوزاً جميع العقبات، ودخل جامعة دمشق طالباً في قسم علم الاجتماع، لكن الحرب أجبرته على ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بطابور اللجوء المرير، فكان مستقره الأخير في مدينة إربد شمال الأردن، حيث رفض للمعاناة التي تضاعفت، أن تعرقل حلمه الجميل. فحصل على دورات مجانية من جامعة “توليدو” في الأردن، ثم التحق فيها طالباً ببرنامج الدبلوم التصميم الجرافيكي.
مثنى الذي يعمل أيضاً كمدرب تايكواندو للاجئين السوريين الشباب، يمتلك مواهب عديدة متنوعة، بالإضافة إلى تطوعه مع كل من “سورياتعبر الحدود” ومع شركة “البريق التعليمية بالهيئة الطبية الدولية” ومنظمة “التعليم لمن يحتاج الماليزية” وعضويات عديدة من أهمها: عضوية “جيل البناء” وعضوية “المنتدى الفكري السوري ” ورئاسة نادي “الطلبة السوريين” و “متطوعون من أجل سورية”، كل هذا يقوم به مثنى بالرغم من إعاقته.
التقيت بمثنى أثناء مشاركته في التدريب على “النجاح في عالم متغير” وهو برنامج تدريبي فكري يستهدف الفئة الشبابية لتنمية قدراتهم من أجل البدء بنجاح شخصي ينتج عنه نجاح مجتمعي، عبر المساهمة في وضع مجتمعاتهم على طريق النهوض والازدهار، عبر عملية تدريبية ممنهجة ومتابعة تمتد لسنوات، إلا أنه لم يستغرق سوى أشهر قليلة ليكون أحد مسيّري هذا البرنامج الفكري، وأخبرني وقتها “أن الرغبة تساوي نصف حياة” وهذا ما جعله يندمج بشكل طبيعي.
بدأ مثنى تنظيم معارض الرسم في الأردن، والتي يعرض فيها حكاياته عبر اللوحات الزيتية، اللوحات التي تسرد القصص وكأنها مجموعة متكاملة من رواية كلاسيكية تحاكي النجاحات لذاك البطل، رغم عالمه المضطرب بالحروب والمصائب.
“النجاح في عالم متغيّر” ليس برنامج تنمية بشرية تقليدي، هو برنامج إصلاحي يرافق الأذهان في الحياة العامة، ويجعل من تربة العقل؛ مساحة خصبة لزراعة الأفكار الناجحة، يختلف البرنامج بشموليته لمنظومة الإصلاح الفكري، في الوقت الذي نجد برامج التنمية البشرية التقليدية تشتغل على بناء قدرات الأفراد، نجد النجاح في عالم متغيّر يصنعها، والشاب مثنى الزعبي ماهو إلا دليل على ذلك.
مثنى فقد يديه، ولكنّها أعطته عزيمة يفتقر لها الأصحّاء، وصنعت منه فناناً ناجحاً رغم هذا العالمَ المتغيّر.
بقلم عبدالله الجبور